Contact us

الدولة والمجتمع

المجتمع والدولة:
المجتمع، كما عرفناه في بداية هذا الفصل، سابق على الدولة، فإذا كان المجتمع (شرطا) للدولة، فإن  (الدولة) ليست شرطا للمجتمع. الدول قد تقوم وتنهار ولكن المجتمع أكثر دواما واستمرارا. وإذا كان وجود (سلطة سياسية) أمرا ضروريا في كل مجتمع، فليس شرطا أن تكون هذه السلطة هي (الدولة) بالمعنى الذي تعارفنا عليه هنا. وإذا كانت الوحدة البشرية الأساسية في الدولة هي (المواطن) فإن الوحدة البشرية الأولى في المجتمع هي (الإنسان) الفرد. وإذا كانت أداة الضبط الأساسية في الدولة هي (السلطة). فإن هذه الأداة في المجتمع هي القوة التي تعتبر السلطة حالة خاصة بها. هذه المقابلات هي تعبير عن أسبقية المجتمع، تاريخيا وسوسيولوجيا على الدولة. فبينما كل مواطن إنسان، ليس كل إنسان بالضرورة مواطنا (بالمعنى الحقوقي).وبينما كل سلطة هي قوة ليست كل أنواع القوة سلطة.

هذا التمايز المفهومي بين المجتمع والدولة مهم لموضوعنا. فالعلاقة بين المجتمع والدولية ليست دائما علاقة متوازية أو منسقة أو منسجمة. فمفهوم المجتمع كبشر متفاعلين، تربطهم شبكة من العلاقات المعنوية والمصالح المادية، ويشتركون في ثقافة عامة واحدة، يقترب إن لم يتماثل مع مفهوم الأمة. وبالتالي قد تمثلهم الدولة أو لا تمثلهم، وقد تكون تعبيرا كاملا أو منقوصا عن شبكة هذه العلاقات والمصالح.
في نهاية عرض مفهوم المجتمع تحدثنا عن الصراع الاجتماعي وآليات كبحه أو احتوائه أو تقنينه، وذكرنا أن السلطة السياسية كإحدى آليات الضبط الاجتماعي، هي خط الدفاع الأخير في حفظ الكيان المجتمعي من الداخل، ضد التحديات أو التهديدات التي قد يحدثها واحد أو أكثر من التكوينات الاجتماعية الطبقية أو الاثنية أو الفئوية. والسلطة السياسية في سبيل ذلك تمارس وظيفتها الردعية – القهرية. ولكن للسلطة وظائف أخرى، تنظيمية وتقنينية وتوزيعية وإشباعية. هذا فضلا عن دورها في حماية المجتمع ضد التهديدات الخارجية. وكلما كانت السلطة السياسية قادرة على أداء هذه الوظائف غير الردعية، كلما كان لجوئها إلى ممارسة وظيفة الردعية في الداخل محدودا، أو غير محسوس بواسطة أفراد المجتمع وتكويناته. وفي حالتها المثلى، كلما قامت هذه السلطة بالتنظيم والتقنين والتوزيع العادل لكل ما له صفة (الندرة) في المجتمع، وكلما كانت قادرة الإشباع المباشر وغير المباشر للحاجات المادية والروحية والرمزية لأغلبية أفراد هذا المجتمع، كلما تقلص لجوؤها لآليات الردع والقهر، أو بتعبير آخر: كلما زادت (شرعيتها)، أي قبول المجتمع لها، والاستجابة لها والامتثال لأوامرها ونواهيها (وليس مجرد الإذعان لهذه الأوامر والنواهي). العكس صحيح.
وكما ذكرنا في فترة سابقة، الحكومة هي تجسيد ملموس لسلطة الدولة، ولكنها ليست الدولة. وتناقص شرعية الحكومة لا يعني بالضرورة تناقص شرعية الدولة. فالنظام الحاكم في الدولة قابل للتغيير في قواعده وأشخاصه، سلما وعنفا، إذا تآكلت شرعيته أو تناقصت كفائته في نظر الأغلبية، أو في نظر أحد التكوينات الاجتماعية القوية، والقادرة على تحديه وتقديم بديل له. وطالما توافرت هذه الإمكانية موضوعيا، وأدركت الأغلبية، أو التكوينات المهملة في المجتمع ذلك ذاتيا، فلا تهديد لشرعية الدولة ذاتها في الداخل. ولكن إذا لم تتوافر الإمكانية موضوعيا وذاتيا، فإن بعض الجماعات قد تسحب إقرارها بشرعية الدولة نفسها، وقد تعبر عن ذلك بمحاولة تقويض الدولة القائمة وخلق بديل لها. ونجاح المحاولة من عدمه، يتوقف بالطبع على عوامل أخرى، منها القدرة المادية لهذه الجماعات أو العوامل الخارجية (الإقليمية والدولية). وبالطبع، تقويض شرعية النظام الحاكم هو أسهل بكثير من تقويض شرعية الدولة.
وسواء أكنا نتحدث عن شرعية الدولة أم عن شرعية النظام الحاكم (السلطة السياسية)، فإن شروط تكرسيها وتقويضها تكمن إلى حد كبير في مدى تمثيلها أو تمثلها للمجتمع وتكويناته واحتياجاته وطموحاته. فكلما كانت الدولة والنظام الحاكم تجسيدا أمنيا وكاملا للمجتمع، كلما تكرست الشرعية والاستقرار الداخلي، والعكس صحيح. تمثيل المجتمع وتمثله بتكويناته واحتياجاته وطموحاته هي (شروط ضرورة) لشرعية الدولة والنظام، ولكنها ليست (شروط كفاية) لاستقرار الدولة والنظام الحاكم. شروط الكفاية تتحقق، حينما توفر الدولة والنظام المؤسسات القادرة على الإدارة والتقنين والتوزيع والإشباع العادل داخليا، وعلى حماية المجتمع ضد الأخطار خارجيا. وعدم توافر شروط الضرورة أو شروط الكفاية، أي غياب الشرعية أو الاستقرار أو غيابهما معا، لا يعني ميكانيكيا أو حتما انهيار الدولة أو النظام. ولكنه يعني (القابلية للانهيار) عند بروز أو تحد أو بديل داخلي أو خارجي جاد. ويعرف التاريخ أمثلة لدول وأنظمة استمرت في الوجود، بلا شرعية وبلا استقرار، لسنوات طويلة لغياب مثل هذا التحدي أو البديل الجاد. ومثال الإمبراطورية العثمانية طوال السنوات المائة الأخيرة من عمرها الطويل، كرجل أوروبا المريض، هي حالة نمطية في هذا الصدد. كما أن العديد من دول العالم الثالث وأنظمته، ومنها الوطن العربي، تزخر بمثل هذه الحالات.
من الحالات التي تكون شرعية الدولة نفسها مهددة من الداخل، أن يكون مجتمعها غير متجانس قوميا أو ثقافيا أو اثنيا، ويحدث ذلك إما لأن (الدولة)، فوضت بداية على أجزاء من مجتمعات أخرى، تم فصلها وتجميعها بواسطة قوة خارجية، أو بواسطة إحدى القوى الداخلية ثم لم تحدث عملية الاندماج أو الصهر لهذه الأجزاء معا بدرجة كافية. فإذا كانت الجماعات غير متجانسة وغير المندمجة في أقاليم بعينها، فإن احتمالات رفضها لشرعية الدولة تكون عالية بخاصة إذا ما تضافر هذا الوضع مع غياب العدالة التوزيعية للسلطة والثروة، ومن ثم الإحساس بالحرمان النسبي.
ومن هذه الحالات أيضا، أن تكون الدولة أقل من مجتمعها القومي، أي أن تكون سيادتها على جزء من الأمة، دون أن تكون راغبة أو ملتزمة أو قادرة على استكمال الأجزاء المنتقصة من مجتمعها القومي، ودون أن تنجح في إقناع مواطنيها بقبول هذا الوضع. وتزداد احتمالات تآكل شرعية مثل هذه الدولة، بخاصة إذا كان أدائها الداخلي متعثرا أو سيئا، أو إذا كانت قدرتها على حماية نفسها أمرا مشكوكا فيه.
وهاتان الحالتان كما سنرى فيما بعد تنطبقان على عدد من الدول القطرية العربية، لذلك فإن شرعيتها كدول، ناهيك عن استقرارها، مازالت موضع شك ليس بقليل. أما شرعية النظام الحاكم واستقراره فيكمنان في درجة تمثيله للتكوينات الاجتماعية الرئيسية في المجتمع من ناحية، وأدائه الداخلي والخارجي من ناحية أخرى. وتكتسب درجة تمثيل النظام للتكوينات الاجتماعية أهميتها من حقيقة (التباين الاجتماعي) على النحو الذي تحدثنا عنه، في عرضنا لمفهوم المجتمع. فالتباين الاجتماعي سواء أكان مصدره تقسيم العمل أم التراتب الاجتماعي الرأسي، أم التنوع الاثني والديني والقبلي وما إلى ذلك، يعني أن هناك تعرضا كامنا أو ظاهرا في المصالح بين الجماعات أو التكوينات التي يفرزها هذا التباين. فإذا كان النظام الحاكم لا يضم في قياداته ممثلين لهذه المصالح المتعارضة، أو إذا لم يبتكر آلية للتوفيق الدوري بينها، بطريقة تضمن الحد الأدنى من حقوق كل هذه التكوينات الاجتماعية، فإن شرعيته تصبح موضع تساؤل من بعض هذه التكوينات على الأقل. فإذا لم تتوافر لهذه الأخيرة آليات مضادة لحماية مصالحها، أو لتغيير النظام الحاكم بطرق سليمة مقننة فإنها تسحب إقرارها بشرعيته، وقد تترقب أقرب فرصة سانحة لاستخدام وسائل عنيفة لتغييره.
وبما أن التمثيل العادل لكل التكوينات الاجتماعية القائمة في السلطة الحاكمة هو أمر نادر، فقد تنقع بعض هذه التكوينات بتمثيل جزئي أو حتى بحق النقض أو الاعتراض حينما تمس إجراءات النظام مصالحها الحيوية بشكل مجحف. فإذا لاقى اعتراضها استجابة معقولة من النظام الحاكم فإنها قد لا تتحدى شرعيته. كما أن تمثيل التكوينات الاجتماعية في السلطة، أو قدرتها على التأثير في هذه السلطة، لا يعنيان بالضرورة أن يكون هذا التمثيل أو التأثير بالشكل البرلماني النيابي الديمقراطي المعروف. هناك صيغ متعددة لمثل هذا التمثيل، مثل الشورى والإتلاف والتعاضدية الحالة المتطرفة لعلاقة النظام السياسي الحاكم بالمجتمع هي أن يكون غريبا عنه تماما (الاستعمار أو الاحتلال). ولكن دون هذه الدرجة من التطرف، يمكن للنظام الحاكم أن يكون ممثلا لفئة واحدة دون بقية فئات المجتمع، وأن يتسلط على بقية هذه الفئات خدمة للفئة التي يمثلها، ويستخدم كل أجهزة الدولة وأدواتها في تسلطه من ناحية، وفي انحيازه من ناحية أخرى.
ومعم الانتقادات التي توجه لمؤسسة الدولة الحديثة، وبخاصة من المدرسة الماركسية، تذهب إلى أن تلك هي القاعدة العامة. فجهاز الدولة ليس محايدا، وليس حكما بين تكوينات المجتمع المدني أو طبقاته، وإنما هو في الواقع يحكم المجتمع لحساب طبقة بعينها (عادة البرجوازية أو الطبقة العليا). وما عدا ذلك فهو عادة استثناء مؤقت (عادة البرجوازية أو الطبقة العليا). وما عدا ذلك فهو عادة استثناء مؤقت (الدولة البونا بارتية). فالدولة وأجهزتها والنظام الحاكم في هذا الرأي، هي في الواقع شيء واحد. وهذا الانفصال بين الدولة والمجتمع المدني، يجعل من الأولى من مؤسسة قمع واستغلال ظاهر أو مستتر، تلجأ إلى القهر المادي المباشر، أو إلى تزييف وعي الطبقات الأخرى. وفي مقابل هذا الرأي هناك من يسلم إمكانية انحياز النظام الحاكم وأجهزة الدولة بشكل محدود لحساب بعض الفئات ولكنهم يؤكدون على أن الدولة تتمتع فعلا بدرجة عالية من الاستقلال والحيادية عن كل التكوينات الاجتماعية دون أن تكون منفصلة عن المجتمع المدني ككل.

0 Reviews:

Post a Comment